بصمـــــــــة!! ... الكاتبه ::: الزهرة الصغيرة
بصمـــــــــــــــــة!!
بقلم: الزهرة الصغيرة
هذه فقط البداية
بصمة
لم تكن هي إلا لحظات خاطفة لم يعي فيها خالد نفسه، يقود سيارته بسرعة مائة وأربعين كيلومترا في الساعة..
أسرعت إلى ذهنه كلمات والدته وهو خارج من المنزل "لا تسرع انتبه للطريق فالأمطار غزيرة هذا اليوم"
عندها لم يجد أمامه إلا أن خفف سرعته إلى مائة وخمسة وعشرين أو أكثر بقليل، دخل الطريق الجبلي، لهذا أراد أن يكون أكثر حذرا، السماء ملبدة بالغيوم وقد أمطرت بشكل غزير منذ الصباح، ثم تحول إلى رذاذ خفيف في هذا الوقت من الليل..
استمتع خالد بسماع ذلك البرنامج في الإذاعة.. كان متفاعلا معهم بضحكاته حين يكون الأمر مضحكا، ويسرح بعيدا بعقله المليء بالأفكار حين تجلب أية كلمة عابرة لحظة عاشها سابقا، سمع كلمتان من المذيع تقول "ويطيب الحديث".. بعد ذلك بلحظات رن هاتفه الخلوي، أخفض عينه قليلا ليرى أسمها يضيء على الشاشة "فرح تتصل بك"، تقافز قلبه وزاد ارتباكا حين هم بالرد، ولكنه توقف وتمتم " نسيت وضع السماعة"، كل ذلك حدث في ثوانٍ...
رفع بصره عن الهاتف لينظر لذاك الضوء الذي باغته فجأة صادرا من سيارة بعكس الاتجاه، فخطف بصره من عينيه لثانية فقط، أغمضها بشكل سريع ثم عاد ليفتحها مباشرة.. فباغتته رعشة قوية برؤية الجبل يقترب منه بشكل سريع جدا، فحاول وبخوف أن يبتعد عنه فأدار المقود مائة وثمانين درجة يسارا لكي يعود لمساره، أسرع أمامه شريط قديم لمناظر حدثت قبل هذه اللحظة، أصوات كلمات ضحكات، كل من يعرفهم كل من يخبرهم، كل من تعايش معهم في أواخر حياته..
لكن الأمر انتهى، فالسيارة لم تعد تحت سيطرته أبدا، نجح في انحراف السيارة ولكنه لم ينجح في إيقافها، تلك العجلات المطاطية احتكت بالشارع بطريقة زلقة لأن الطريق كان أملسا يعكس ما عليه كالمرآة، فدارت السيارة مرات عديدة كأنها في دوامة ولم يوقفها إلا اصطدامه المفاجأ بالحاجز الأسمنتي، فطارت السيارة مرتفعة ثم حطت على الطريق الآخر وهي تتقلب رأساً على عقب حطم الحاجز المعدني ثم استوقفتها صخور سفح الجبل الآخر فتركتها تقف على أرجلها، ما حدث كان صعبا للغاية، فالسيارة بدت كورق كرتون قلبها الهواء في دوامة..
لا يعرف خالد ما الذي حدث سوى أنه كان يتألم، ولكن صوت مزمار سيارة ثخين انساب بشكل متتالي لإذنيه جعله يرفع بصره ليرى تلك السيارة الضخمة منطلقة باتجاهه تترنح بمحاولة التوقف ولكن بلا فائدة فهي تنزلق بسرعة كبيرة جداً.....
الجزء الأول
مكان هادئ، جو دافئ تحت الغطاء، راحة تامة ونومة هنيئة، سرعان ما انتهى كل ذلك بصوت التنبيه الذي أصدره الهاتف النقال، انقلب للجهة الأخرى ومد يده المتراخية للهاتف وهو يعلم أن الوقت هو العاشرة صباحا، ولكن رغبته بالنوم كانت أقوى، فدس يده تحت الوسادة فأسكت المنبه وعاد للنوم...
لم يكن إسكاتها كليا لأنه بكل بساطة عاد للرنين بعد خمسة دقائق بالتمام، هو قد تعمد ذلك لأنه يعلم أنه لا يستيقظ من المرة الأولى، فالضغط على زر الغفوة كان كفيلا لذلك، إلا أنه لم يستفيق هذه المرة أيضا بل أسكته نهائيا وقام بإغلاق الهاتف..
**********
رفع رأسه فجأة نظر حوله وكأنه كان لا يزال في موقع الحلم، بنظرات ضبابية رأى تلك الساعة الجدارية التي تشير للواحدة ظهرا، أمعن النظر جيدا بعد أن دعك عينيه بعنف، قام بسرعة مربكة مبعدا الغطاء عن بدنه كاشفا عن جزء جسده العاري، وهم بالجري إلى الحمام ولكن قدمه التي لم ينتبه لها كانت قد علقت بالغطاء الذي عرقله وجعله يرتطم في الأرض، قام يتألم من معصمه، ولكنه أكمل طريقه وهو يسحب منشفة الاستحمام...
حمام سريع وخرج يكمل ارتداء ثيابه دون أن يقف الدقائق الطوال التي كان يقفها في العادة أماما الدولاب لاختيار أي الثياب التي يرتديها، أهي دشداشة بيضاء أم سوداء أم بذلة الجينز والتيشيرت أو بذلة رياضية؟ ويقوم باختيار الألوان التي تتناسب مع بعضها، ثم الحذاء فالقبعة.. روتين يومي، ولكنه هذه المرة ارتدى أي شيء وقعت عليه يده ساحبا إياه من الدولاب وراميا لبقية الثياب على الأرض، خاطب نفسه "لا باس دعها الآن أمامك أمر مهم"
حين أقبل على الخروج من الغرفة تذكر أمرا أهم، الصلاة، فقد انتهت صلاة الظهر منذ عشرة دقائق أو أقل أو أكثر، لا فرق المهم أنها فاتته، فعاد أدراجه، وبحث عن السجادة التي كانت قابعة تحت السرير متسائلا " كيف أتت إلى هنا؟"
كل ما فعله هو أداء صلاته ثم خرج من الغرفة وهو يضع قبعته السوداء الجلدية على رأسه، لم يجد أحدا في طريقه، لم يرى أمه ولا أبيه، ولم يرى أيا من أخوته، ولم يتعب نفسه بالطبع بالمرور على غرفة الطعام كي يتأكد من أنهم جميعا هناك يتناولون طعام الغداء، استقل سيارته، وبعد أن عبر البوابة إلى الخارج، تمهل لينظر إلى هاتفه..
كان يتوقع أن يكون باسم قد أحرق هاتفه اتصالا، حين فتحه، انتظر حتى تتابعت الرسائل واحدة تلو الأخرى إلى أن أصبح مجموعها في النهاية 6 رسائل، تلك الرسائل التي اشترك في خدمتها منذ عدة أشهر والتي تساعده على استقبال رسائل بأرقام وأسماء - إن وجدت - للأشخاص الذين اتصلوا به حين كان هاتفه خارج نطاق التغطية، وكذلك تظهر أوقات وتاريخ وصول المكالمة...
فتحها كلها.. أربعة رسائل كانت من باسم في مختلف الأوقات، ورسالتان كانتا من رقم مجهول لم يعرف صاحبه أبدا، ولم يبالي أيضا، لذلك أكمل طريقه..
توقفت سيارته أمام بناية ذات طابقان.. ترجل منها وصعد الدرج جريا حتى وقف أمام باب إحدى الشقق، طرق الباب مرتين وثلاثة لأنه في المرة الأخيرة كان يذكر أن الجرس معطل..
ما أن فتح له الباب ودخل ا لشقة حتى بدأ حسن بمهاجمته..
_ أهذا ما اتفقنا عليه؟
أحس خالد بذنبه فقال معتذرا:
_ آسف يا رجل، فقد أخذتني الغفلة.. استيقظت منذ ساعة تقريبا.. أخبرني ماذا حدث؟
_ لست أنا من سيخبرك.. وكِّل المهمة إلى غيري.
_ حسنا.. أين صاحبك هلال؟
_ سافر منذ يومين، ربما يعود بعد شهر من الآن، أخذ والده للعلاج في الهند..
تمتم خالد" لم اعد استغرب لما يبدو المكان كسلة مهملات"
]حسن 24 عام شاب ممتلئ الجسد ومكتنز قليلا، أسمر البشرة، يقطن برفقة صاحبه هلال[
تحوي الشقة التي يعيش فيها حسن وصاحبه على غرفتا نوم وغرفة جلوس صغيرة مباشرة بعد باب المدخل، المطبخ والحمام (أعزكم الله)، كل ذلك مفتوح على غرفة الجلوس التي لا بداية لها ولا نهاية، كانت الشقة في حالة يرثى لها منذ ليلة أمس وربما التي قبلها أيضا، بعض الثياب هنا وهناك، أطباق الطعام وعلب العصير والمياه الغازية الفارغة، جرائد مرمية على أطراف الصالة، ومحارم ورقية مستخدمة تتجمع تحت الطاولة أو على أطراف الجلسة، وبعض فتات البسكويت وقشر الموز والبرتقال..
جلس خالد على الأريكة على مهل كي يبعد قدمه عن هذه الوساخة التي تملا المكان، شعر بضيق المكان، تلفت حوله ولم يفاجأ أن لا احد هنا، فهو متأخر عن موعد الاتفاق كثيرا، قال خالد وهو يسحب قطعة شوكولاته مغلفة من سلة مصنوعة من القش وقد دارت عينه يمينا ويسارا يرمق الأوساخ بنظرات متقززة:
_ أين الجميع؟
اتجه حسن للمطبخ وهو يجيب بصوته المنخفض:
_ سيأتون قريبا..
مرت دقيقتان و ثلاثة، وكان خالد يقلب قنوات التلفاز، تمتم " لا شيء، لا يضعون شيئا هذا الوقت، قنوات ميتة..."
فعادة فترة الظهر بالنسبة لخالد ليست إلا فترة مسلسلات سواء كانت خليجية أو مصرية أو المدبلجة، وهذا النوع من المسلسلات لا تجتذبه أبدا، إلا التمثيليات السورية الكوميدية، لأنه يهوى الضحك أيا كان مصدره، فيقلد الممثلين مثل باسم ياخور، يردد كلمات أضحكته صدرت منه أو أي حركات كانت ممتعة بالنسبة له، فقد كان يراه فنان ممتاز.. نظر ثانية حوله خوفا من خروج الحشرات من تحت تلك الأكوام المتعفنة..
_ الجماعة كانوا بانتظارك ولم تأتي.. جاؤوا فترة الصباح ثم غادروا ثانية عندما ارتفع أذان الظهر، سنتناول طعام الغداء هنا اليوم..
قال ذلك وهو يجلس ممسكا بقنينة ماء دافئ يرتشف منها كل حين، بينما كان خالد يريد تبرير موقفه، كان يعلم أن البقية حين يأتون سيسألون السؤال نفسه وسيكون عليه إعادة الجواب... أخرج هاتفه النقال من جيبه وضغط على بعض الأزرار ثم بدأ بتبريراته:
_ ليلة أمس نمت متأخرا، في الحقيقة لم أنم ليلا بل بعد الفجر، لهذا لم أتمكن من الاستيقاظ في الصباح، على الرغم من أني كنت اخطط لذلك..
ابتلع حسن جرعة الماء وأسرع بالقول:
_ ما الذي كنت تفعله طوال الليل؟
_ اعتكفت على الانترنت..
_ الدردشة؟
_ القليل من الدردشة.. على الرغم من أنها كانت مملة ليلة أمس، الذين اعتدنا على وجودهم والضحك معهم لم يكونوا متواجدين لهذا دخلت عدة منتديات أخرى، تسليت بقراءة بعض المواضيع، ورؤية الصور الغريبة، قمت بتحميل الكثير من الألعاب على الجهاز... أمور كثيرة فعلتها..
تمتم حسن "مازلت كالأطفال.. (ثم ردد الكلمات بسخرية وضحكة خاطفة بينما رفع قنينة الماء إلى فمه) تحميل الكثير من الألعاب.."
بينما أعاد خالد الالتفات بضيق ونفاذ صبر، كان يشعر بأن تلك الأوساخ المتجمعة تجثم على صدره، وتبدد تركيزه وأفكاره، لهذا و بعد أن رمى خالد جواله على الطاولة أشار على حسن بيده وهو يقف قائلا:
_ هيا دعنا نبدأ التنظيف..
قطب جبينه والتفت للجهة الأخرى، وبعدم رغبة أجابه:
_ يا أخي.. الأمر متعب وممل دعك من ذلك...
لم يبالي خالد بتلك الأعذار فراح يشد يده وهو يقول بنفسٍ ثقيل:
_ قم هيا دع عنك الخمول والكسل.. أنت تريد إتباع حمية لأجل تخفيف وزنك، اعتبر هذا التنظيف رياضة.. رغم أن الحمية فاشلة تماما لكن هذا يفيد..
_ أف...
أخرجها بدفعة هواء ثقيلة وقام مجبرا، وشمر خالد عن ساعديه لبدأ حملة التنظيف...
جلس ينفث الهواء بثقل وتداعى بجسده على الأريكة يناشد الراحة، بينما استمتع خالد بالضحك وهو ينشف يده بالمحارم الورقية بعد غسلها بالماء والصابون، وضع كفه أمام أنفه بطريقة خاطفة ليشم رائحتها، بعدها مباشرة أصدر الباب صوتا من خلفه واندفع منه باسم يحمل أكياس بكلتا يديه، وخلفه راشد و بيده أيضا أكياسا أخرى كتب عليها مطعم ... ، نظرات خاطفة من باسم سرعان ما انتهت وهو يلقي السلام ويضع الأكياس بجانب الطاولة الخشبية، بينما وضعها راشد فوق الطاولة وهو يتذمر وينفض يديه:
راشد: أأأه.. يداي أصبحتا بلون الدم.. أشعر بحرارة..
حسن (الذي لم يحرك ساكنا سوى أنه رفع رأسه قليلا): قبل أن تتذمر كأنك فتاة ناعمة.. كان عليك غلق الباب وإلقاء التحية..
راشد (أشار بيد وأهمل الأخرى جانبا): أنت.. لا تتكلم معي بهذه الطريقة النزقة..
حسن (يضحك بسخرية): أتعرف ما معنى النزقة من الأساس؟
كان ذلك سببا لأن تتالت ضحكات كل من خالد وباسم.. لكن باسم سرعان ما أخفى ضحكاته حين شعر بنظرات خالد موجهة إليه، وانطلق إلى المطبخ.. جاعلا الجميع يرمقونه بنظرات جانبية..
راشد: ما به باسم.. منذ لحظات كان بخير.
خالد (بينما كان يجلس على الأريكة ويحاول سحب الأكياس): ربما هو غاضب مني..
راشد: إنه على حق فأنت قد....
وسرعان ما نسي قوله وانطلق لإغلاق الباب وهو يقول لحسن:
_ سأغلقه هذه المرة ولكن لا يعني ذلك أنك تستطيع السيطرة علي في كل مرة...
ضحك حسن وهو يهمس:
" كل مرة يقول ذلك.."
]راشد 19 عام أصغرهم جميعا، له بنية ضئيلة وسريع الحركة [
ابتسم خالد ببساطة وبقي صامتا وهو يخرج ما بالكيس، تطايرت رائحة الأرز والدجاج والصلصة الحارة والمخلل، عندها اندفع حسن للأمام وهو يصدح بصوته الغليظ:
_ واو.. إنه الغداء، رائحته زكية يا جماعة..
جاء باسم من الخلف وهو يقول:
باسم: انتظروا مجيء عبد الله، وعلينا أن نجلس على تلك الطاولة..
أشار على طاولة الطعام التي أهملت على طرف الصالة، فجهر
راشد بصوته وهو يقف بجانب الباب قبل غلقه:
راشد :ها هو صاحبكم..
دخل عبد الله رافعا يده وهو يصرخ:
عبد الله: السلام عليكم أيها الناس..
أجاب الجميع بصوت بارد وخافت: وعليكم السلام
..
]
باسم 24 عام، شاب نحيف متدين له لحية قصيرة، وأكثر جدية وقدرة على تولي زمام الأمور بالنسبة للجميع، وهو صاحب خالد المقرب[
ضرب عبد الله بأكفهم جميعا ثم دفع خالد بجذعه وجلس على الأريكة ملتصقا به تاركه بلا نفس، وبدآ يداعبان بعضهما بأن يدفع كل منهما الآخر، وأصبحت لعبة عنيفة من سيسقط الآخر على الأرض كي يبعده عن الأريكة..
يضحكون من صميمهم، حينها أسرع باسم في ترتيب طاولة الطعام، ووضع الغداء، وكان حسن أول الجالسين على الكرسي ينتظر البدء قبل الجميع متناسيا الحمية التي يتبعها، انضم إليه
راشد وصاح بهم بصوت عال:
راشد:أنتما أيها الطفلان.. سنبدأ الأ...
لم يكمل راشد قوله حتى سمعوا صوت ارتطام رأس خالد بالطاولة الصغيرة..
قام باسم مباشرة وأسرع إليه ليراه ممددا بلا حراك..
باسم (قال بخوف): ما الذي حدث له؟
عبد الله قام يتفقده ثم بدأ الضحك، وهو ويقول:
_ يا جماعة الرجل فاقدٌ وعيه...
باسم (بغضب): وهل هذا مضحك إلى هذه الدرجة؟ احضروا الماء..
أسرع راشد لإحضار الماء، بينما كان حسن يلعق شفاهه يريد البدء في الأكل، ولكنه بقي صامتا كي لا ينتقده باسم على أنه لا يبالي بما يحدث، فضل في مكانه يراقب من بعد...
باسم( كان منحنيا فوق خالد يضرب وجهه بخفةِ كفه): خالد.. خالد..
راشد (مسرعا): أحضرت الماء..
لم يلبث أن أخذ باسم الماء، حتى بدأ جسد خالد يتحرك برجفة بسيطة ثم ارتفعت وهو يضحك بصوت أعلى، شاركه عبد الله الضحك بينما غضب راشد وهو يعود للخلف:
راشد: أيها المجانين، هذا وقت الغداء ليس وقلت اللعب والمزاح السخيف..
وقف باسم منتصبا أمام قدم خالد ينظر إليه بتمعن، خفت ضحكات خالد فمد باسم يده..
باسم: هيا قم..
سحبه واقفا، ثم ترك يده مغادرا إلى الطاولة، وتبعاه خالد وعبد الله..
]عبد الله 23عام، شاب طويل جدا وذو رقبة طويلة، بنيته قوية بالرغم من نحافته المتوسطة.. عينه صغيرة، مرح ووجهه بشوش[
جلسوا وبدأ خالد يمسح رأسه حيث تركزت نقطة الاصطدام، الآن صار يتألم، بعد أن أصبحت الضربة باردة كما يقولون، كان حسن قد بدأ الأكل، ووضع أمام كل منهم طبق من الورق ووزع الطعام عليهم، ثم المياه الغازية والمياه المعدنية....
جاء سؤال راشد كما توقعه خالد تماما، حين قال:
_ لما لم تأتي منذ الصباح كنا بانتظارك يا مخلف المواعيد...
خالد (بينما كان في فمه مضغة من الدجاج): أولا لا تطلق علي هذه الكلمات الغبية، ثانيا، انتظر لحظة..
دفع حسن بذراعه وهو يقوله له:
خالد: هلا أخرجت هاتفي من جيبي؟
حسن كان يتلذذ بغدائه حين أتاه الأمر من سلطة خالد الذي يُحسب له حساب كبير لديه، فهو يراه شابا بشخصية عنيفة وجادة على الرغم من أن ما يظهره خالد هو العكس تماما، وكان دائما يقول لهم أنهم يوما من الأيام سيرون منه الجانب المخفي الذي يتحدث عنه.. أخرج الهاتف من جيبه كما طلب منه ولكن بغصة مكتومة..
خالد (بعد أن أخذ الهاتف من يده): شكرا لك... يا أصحابي.. (ثم همس لهم) هذا ردي..
بعد أن ضغط الأزرار بإصبعه الأصغر، جاء صوته من الهاتف " ليلة أمس نمت متأخرا... " بدؤوا جميعا بالضحك... فأشار عليهم بيده بالصمت، وتابع ما في الهاتف " ..لهذا لم أتمكن من الاستيقاظ في الصباح، على الرغم من أني كنت اخطط لذلك.."
خالد (بعد أن أسكته): سمعتم؟ أتريدون المزيد؟
باسم: يكفي يكفي، سمعنا ما أردنا معرفته..
لم يعد خالد الهاتف إلى جيبه لأن الهاتف بدأ بالرنين.. ظهر على الشاشة رقم الهاتف المجهول الذي رآه سابقا، قطب جبينه وضغط زر الإجابة ثم أنزل رأسه ليضع إذنه على سماعة الهاتف بينما هو على الطاولة.. وسط ضحكات رفاقه.. همس خالد:
_ مرحبا...
انساب صوت ناعم عبر الهاتف يقول:
_ أهلا.. من معي؟
تلعثم خالد بالرد، ولكنه جمع بعض الأحرف وألقاها في النهاية عبر كلمات غير مرتبة:
_ أنا.. أعني أنتِ.. من أنتِ؟ ألستِ التي متصلة أنتِ؟ أقصد....
لم تنتظر حتى يصحح جملته ويبين مقصده من تلك الكلمات المنتثرة.. فقالت:
_ آسفة يبدو أني أخطأت الرقم...
وأغلقت الهاتف مباشرة..
رفع رأسه وقد تحولت إذنه للون الأحمر، بل وقد انتشر اللون في وجهه كله، قال متلعثما مرة أخرى وسط ضحكاتهم الساخرة:
خالد: ما بكم؟ هي.. فقط.. لا أعرف.. فتاة أخطأت، مجرد فتاة..
راشد ( وقد كانت حبات الرز تتطاير من فمه): عرفنا ذلك من كلماتك أيها المتلعثم..
ثم أعادوا عليه الكلمات التي أخطأ بالتعبير بها، ولم يكفوا عن ذاك التعليق كالعادة.. فترك ما بيده ثم نهض دافعا الكرسي خلفه بقوة واتجه لمغسلة دورة المياه..
حسن: لقد أغضبتموه..
عبد الله (وهو يطلق آخر الضحكات): وكأنك لم تضحك معنا..
راشد (متسائلا والابتسامة تملأ وجهه): أريد أن أعرف ما سر تلعثمه حين يسمع صوت الفتيات..
باسم: لأنه غير معتادٍ على ذلك..
راشد: ومن منا معتاد، إلا أنه يعاني عقدة ما ربما.. ما رأيكم أن نكتشف الأمر؟
باسم(بجدية): لا تكن سخيفا..
راشد(وطأ رأسه ليحمل قطعة مخلل الخيار): كنت امزح فقط..
وقف خالد أمام المنظرة بعد أن غسل يديه، نظر إلى نفسه، ابتسم، ثم عبس، لف يمينا قليلا ثم عاد للالتفات لليسار، قطب جبينه، ثم استرخى... لم ينتبه إلى أن باسم كان يقف خلفه بجانب الباب إلا بعد أن رمقه بنظرات سريعة وغير مقصودة عبر زاوية المرآة..
خالد (وكأنه تفاجأ): منذ متى أنت هنا؟
باسم (يبتسم من صميمه): منذ أن تبسمت في المرآة..
ضحك خالد بخفة محرجا مما صدر منه، بعدها سحب كمية من المحارم وخرج بينما دخل باسم بعده وغسل يده بشكل سريع وانطلق خارجا يتبعه، ولكنه فوجئ به عند جانب الجدار خلف الباب تماما، فقفز فزعا وهو يضع يده على قلبه...
باسم (ضربه بقبضة يده على ذراعه): أيها المجنون.. ماذا تفعل هنا؟
خالد: كنت بانتظارك..
بعد الغداء، كانوا يجلسون في غرفة المعيشة على تلك الأرائك القديمة، لم يسلم خالد من مزاحهم وتعليقاتهم على تلك اللعثمات، كان يرد بصمته، حين شعر باسم أن خالد تغير وجهه فضل السكوت ونسيان الموضوع من أساسه، لأنه يعلم أن صاحبه لا يحتمل الزيادة في التعليقات الموجهة إليه..
جاء صوت الهاتف يرن ثانية، نظر إلى الشاشة، صمت الجميع، أرمقهم واحدا تلو الآخر بنظرات متتالية، فرأى في عيونهم المحدقة به الانتظار والتلهف إلى الاستماع إليه وهو يتكلم...
فخيب أملهم أن قام واتجه إلى المطبخ، وقف هناك يتأمل رقم المتصل، إنها الفتاة ذاتها، ماذا تريد الآن.. هكذا همس في نفسه، حتى توقف الهاتف عن الرنين، أرخى يده على جنب وجعل الهاتف بترنح بين أصابعه حتى جاء الاتصال ثانية ولم يتأخر في الإجابة...
خالد (بعد أن أخذ نفسا عميقا همس بصوت غليظ): ألو...
ظل الطرف الثاني في صمت، بينما كان التنفس يتطاير إلى سماعة الهاتف ثم إلى إذن خالد، ثم أغلقت الهاتف...
بقي خالد في مكانه جامدا والهاتف لازال عالقا على شحمة أذنه، يراجع ما حدث، هذه الفتاة قالت في السابق أنها أخطأت على الرغم من أنها كانت قد اتصلت عدة مرات صباح اليوم، ثم عادت للاتصال فيما بعد حين اعتذرت والآن تتصل وتبقى صامته ثم تغلق الهاتف، ابتسم وهو يرفع السماعة عن إذنه، وكان يضحك ضحكات مصطنعة، حينها قرر الخروج من المطبخ في الحال، والانضمام لأصحابه دون أن يبالي بها..
عاد للمنزل بعد يوم متعب، رأى زوجة والده في غرفة الجلوس مع أخوته الأصغر، أشار بيده وهو يلقي عليهم السلام ثم أكمل طريقه حتى قبل أن يسمع الرد.. بينما لو كان والده متواجدا لانطلق إليه يقبل رأسه ويده، لأنه يكن له الاحترام الشديد، وعلى ذلك لو فتشنا في قلبه فسنرى أنه رغم حبه لوالده إلا أنه يحمل بعض عبرات الخوف والخجل منه..
تزوج أبا خالد من امرأة أخرى غير والدته التي توفيت بينما كان هو في الخامسة من عمره، ولم يكن له أخوة، وبعد الزواج من صفية أنجبت له أربعة أخوة بعد سنوات عديدة، سعد وسالم وسنديه وسميرة، الفرق بين كل واحد منهم عام واحد فقط، إلا سعد وسالم، ويتدرجون في سلم المرحلة الابتدائية العليا...
أما بالنسبة له فقد لقي عناية تفوق درجة الممتاز من زوجة والده صفيه، فلم تكن من النوع الشرير أو الحقود أو القاسي، ولكن خالد شخص متقلب المزاج ومتغير الشخصية، لا يثبت على رأي، في بعض الأحيان كان يفضل قضاء بعض الأوقات مع صفية ويقبلها كلما خرج أو عاد من الخارج، وفي بعض الأحيان كالآن، تراه يلقي السلام من بعيد ثم ينطلق لغرفته مباشرة حتى وإن لم يرهم منذ الصباح، وهي لا تهتم بهذه الأمور لأنها تتفهم شخصه تماما...
دخل غرفة نومه وتوقف عند بابه ينظر إلى ثيابه ملقاة على الأرض، تذكر استعجاله في الصباح، وسحبه للباسه بطريقة فوضوية، عندها تذكر أن استعجاله ذهب هباء فهو حتى الآن لم يعرف ما سبب ذاك الاجتماع الذي مضت عليه نصوصه، أغلق الباب ثم قام بترتيب الغرفة، ثم أطفأ الأنوار، وأضاء مصباح النوم، غير ثيابه، لبس بيجامة نومه ثم رمى بجسده على السرير، وأغمض عينه لمدة، كان مسترخيا، فهاجمته بعض الأفكار في رأسه أن يتصل بباسم ويجبره على أخباره، ففوات الاجتماع بتقصير منه يعني أن ما قيل لن يعاد - هي أحد قوانين المجموعة - ولكنه أصبح فضوليا في الفترة الأخيرة، ولبث مغمض العين واجتاحته رغبة النوم، حتى تحرك داخله شوقا لدخول عالم الانترنت، فقام مجبرا نفسه، و وضع جهازه المحمول أمامه وهو يجلس على سريره، بدأ التشغيل وانتظر أن تفتح الشاشة بشكل كامل...
طلب صفحة الانترنت، كتب في "جوجل" للبحث حرف الميم والنون وخرجت كلمة مخزنة يستخدمها دائما "منتديات" واختار إحداها ثم بدأ البحث...
إطار آخر فتح فيه صفحة الدردشة، بقي ينظر لؤلئك الذين يتحادثون ولكنه لم يشاركهم حديثا، شعر بان الأمر لم يعد ممتعا ولا مسليا، لهذا ترك هذه الصفحة وراح يبحث في صفحات أخرى...
نظر لساعته، فقام بالاتصال بباسم يناشده أن يخبره بأمر الاجتماع ولكنه وعده أن يخبره في وقت آخر ولكن ليس الآن.. فوافق مكرها وأغلقا الهاتف لان باسم طلب ذلك، فهو دائما يضع في أولوياته وقت الاستيقاظ لصلاة الفجر أو صلاة الليل...
وضع الهاتف بجانبه وأكمل تصفحاته، كان ضوء شاشة الحاسوب تضيء وجه خالد وسط ظلمة الغرفة، فتجعل بعض ملامحه مريبة كلمعان عينيه والضلال التي تتشكل تحت أنفه وعلى أطراف من وجهه وفمه..
رنة هاتفه التي تشير إلى أن رقم المتصل مجهول، ولأنه وُضع على وضع الهزاز اهتز الهاتف واهتز قلب خالد معه، كان متأكدا من أن تلك الفتاة هي ذاتها التي تتصل الآن، أخذ الهاتف وكان على حق.. تردد في الرد عليها أو تركها حتى تغلق وحدها، هو يعلم أنها بهذا التكرار تريد شيئا غير الذي تتحجج به بقولها "أخطأت الرقم".
أجاب حين لم يتبقى من رنة الهاتف شيء، أي في الوقت الضائع..
كان هذه المرة أشد حزما :
خالد: السلام عليكم...
_ وعليكم السلام والرحمة..
قال في نفسه "جيد أنها تكلمت"
ولكن كل منهما لم يجد ما يقوله، لم تهرب هذه المرة وتغلق الهاتف بل أكملت ما بدأت:
_ من معي؟
خالد: أنتِ المتصلة يا أختي لما تسألين؟
_ بالفعل أنا التي اتصلت ولكني أريد أن أعرف صاحب هذا الرقم..
خالد: تريدين أحدا معين؟
_ نعم،، هذا الهاتف أذكر أنه هاتف صديقة لي..
خالد: منذ متى صديقتك تمتلك رقمي؟
_ لست أمزح معك..
خالد: وأنا أيضا لا أمزح..
_ من أنت؟
خالد: هيا أخبريني من أنتِ فأخبركِ من أنا..
_ منذ متى تقول الفتاة من هي ويمتنع الرجل؟
خالد (رغم أن دقات قلبه كانت كالطبل لأنه بأمر جديد): منذ الآن.. أنتِ تتحدثين معي، إذا أنا من أضع القوانين فلا يهمني ما يحدث في العادة.
_ أنت فيلسوف..
خالد: إذا ليكن أسمي الفيلسوف... وأنتِ؟
_ (ضحكات خافته ثم..) حسنا لا بأس، أنا فرح..
خالد (يزفر بضحكة ساخرة): أتمزحين؟ لا أصدق، فأنا لا أتوقع أن فتاة إماراتية بهذا الاسم.
_ لما؟ أنا أعرف فتاة بهذا الاسم.
خالد: مهما يكن.. هذا ليس أسمكِ.. صحيح؟
_ كما أن أسمك ليس الفيلسوف.
ضحك خالد ثم سال:
خالد: ماذا الآن؟ هل هذا تعارف؟
_ كما تشاء.. سمهِ ما شأت..
خالد: على الرغم من أن صوتكِ يشير إلى صغر سنكِ إلا أنكِ جريئة وذكية على ما يبدو.
_ قل ما تشاء لا اعتبر هذا إطراء، لا يهمني..
خالد: يبدو أنك سمعت الكثير من هذه الكلمات لهذا لم تعد تعجبكِ.. المهم، ما نهاية قصتك يا (بطريقة غير موازية مع الوضع نطقها) فرح..
_ لما تقول اسمي بهذه الطريقة؟
خالد: لما تتركين المغزى وتهتمين بالكلمات التي لا معنى لها؟
_ على العموم.. علي النوم باكرا، لهذا سأغلق الهاتف..
خالد: أين صديقتكِ الآن؟
_ (لا تريد إعادة ذكر الموضوع): قلت لك سأغلق...
خالد: إذا الوداع..
_ (بشكل سريع) أنتظر لحظة..
خالد: ماذا أيضا؟
_ هل لي أن أتصل غدا؟
التزم خالد الصمت، قلبه بدقات ثقيلة ومرعبة وهي تفسر أن ما يحدث هو خطأ بل قمة الخطأ.. وكانت هي بانتظار الإجابة، تخيره هو على الرغم من أنها هي من يريد الاتصال..
_ لا تريد الإجابة؟ لا بأس، إذاً أراك.. أعني سأسمع صوتك غدا، وداعا..
أغلقت الهاتف مباشرة، ولم يقل خالد أية كلمة لا في مسامعها ولا في داخله، كل ما حدث كأنه حلم، أو خيال، انتهى بسرعة ولا عودة له، لهذا طرده من فكره على الأقل في الوقت الحالي، وأغلق جهاز الحاسوب مباشرة وقرر الذهاب للنوم بدلا من البقاء مستيقظا حتى الفجر كما حدث بالأمس، فخلع قميص البجامة وسحب الغطاء إليه بسرعة قبل أن يجتاحه البرد...
أصبحت الغرفة حالكة السواد حين أغلق مصباح النوم، بعد ذلك بدأ ضوء بسيط يخترق النافذة وانتشر في الغرفة مما سمح برؤية بسيطة جدا لا تكاد تذكر..
غفي في نومه ولكنه نهض فجأة وبدأ جسده يرتجف جراء الاستيقاظ المفاجأ، صوت الهاتف ووضع الهزاز الذي هو عليه كانا السبب في إيقاظه، تجاهله في البداية ولكنه فيما بعد سحب الهاتف من تحت الوسادة ونظر عبر الشاشة التي كتب فيها " الرسائل الواردة 1" كلمات جميلة طالما أعجب بها عندما امتلك الهاتف النقال أول مرة منذ أعوام، كانت عينه منكمشة كي تخفف حدة الإضاءة بعد أن عاشت الظلمة مدة لا بأس بها..
فتح، ثم قرأ الرسالة، " ( ****@hotmail.com ) هذا بريدي الالكتروني إن أردت محادثتي عبر المسنجر أي وقت.."
وضع الهاتف جانبا وراح يفكر، الأمر الذي وضعه منذ لحظات في قائمة الحلم المنتهي، خرج ثانية وبدأ يصبح واقعا، هذه الفتاة أرسلت بريدها الالكتروني، هذا يعني أنها جادة في التعرف عليه.. طوال الوقت أخذته الهواجس والأفكار بشأن فرح، ولم يعي نفسه حتى غاب في عالم الأحلام بنوم عميق..